معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

الفقه الاسلامي بين الاصاله و الحداثه

السيد الأستاذ عمار ابورغيف
  • ٨٥٦٥
  •  

الفقه الإسلامي بين الأصالة والمعاصرة


السيد الأستاذ / عمار ابورغيف


 


التقابل بين الأصالة والمعاصرة إشكالية تتجلى في حقول مختلفة من المعرفة والسلوك الإنساني ، وهي ليست حكراً على حقل معرفي خاص ، ولا تقتصر جغرافيتها على مشارق الشمس أو أوطان أتباع مذهب أو دين محدد ، والاستقراء يؤكد ما نذهب إليه . ومن ثمّ فهي ليست إشكالية تخص الفقه الإسلامي أو قواعد استنباطه ، بل يمكن أن نراها في سائر حقول المعرفة الإسلامية ، ونلمس تجلياتها في سلوك الآدميين من المنتسبين لهذه المعرفة.


ولكي نتعرف على طبيعة هذه الإشكالية في الفقه الإسلامي ولكي نقف عند واقع التدافع بين الأصيل والمعاصر في هذا الفقه علينا أن نبدأ بتحديد موضوع المسألة وتنقيح محل النزاع ، فالأقدمون من أهل العلم حرصوا على البدء بتحديد محل النزاع قبل أن يردوا أي نزاع يريدون خوضه وإبداء الرأي فيه. أما الفيلسوف الإنجليزي المحدث "جورج مور" فقد أكد على أن كثيراً من النزاعات الفلسفية زائفة بحكم اختلاف الرؤى حول الاصطلاح وتعدد مفاهيم النزاع. 


إذن فالمتعين أن نبدأ من التعريف ونطرح الاستفهام التالي : 


ما المعني بالأصالة وما المراد بالمعاصرة؟ 


بدءً أجد من الضروري استبعاد المدخل المشوش لتعريف هذين المصطلحين ، حيث أختار هذا المدخل الدكتور فؤاد زكريا في كتابه ((خطاب إلى العقل العربي)). إذ أدان اولاً الأصالة بتعريفها إنها العيش في الماضي واستلهام التأريخ لبناء حياة الحاضر على أساسه ثم فسر المعاصرة بأنها الفعل القهري بمساكنة العصر الذي تعيش فيه وهي حتم مفروض ، ومن ثم تضحي الإشكالية مزيفة ! ثم طرح تعريفاً آخر للأصالة بأنها العودة لما هو إبداع مستقل دون اعتماد على الأخر ، والمعاصرة بأنها تعني الفعل الاختياري بمتابعة أفضل إنجازات العصر ومن ثمّ لا منافاة بين الأصالة والمعاصرة !  


وإذا أردنا أن نقترب في تعريفنا من الصورة العامة التي نستعين بها مدخلاً للبحث نقول :


الأصيل : هو الكائن الذي يرتد إلى أصل ويتفرع من جذور ضربت في الأعماق، الأصيل من الظواهر هو ما يستدعي تفسيره وتقويمه وتبريره الرجوع إلى منابعه، والأصيل من الأفكار ما لديه مرجعية تسوغ وجوده يتكأ عليها ويتأسس في ضوئها.


أما المعاصرة فهي تعني أن يكون السلوك منتمياً إلى عصره وأن يكون الفكر منسجماً مع تحولات العصر وتطوراته ، لا أن ينتمي إلى الماضي في لغته وأدواته ورؤيته. أن يكون الفكر معاصراً يعني أن يكون مستجيباً لمتطلبات العصر واستحقاقاته ، ومجيباً على أسئلته وملبياً لتطلعاته. 


دون شك هناك تعارض وتضاد بين المعاصرة وبين التحجر والانكفاء على القديم ، بين الحداثة وبين الماضوية وتقديس القديم لقدمه ، ولكن هل هناك تعارض بين أصالة البحث الفقهي وبين معاصرته ؟ هل هناك تضاد بين الفكر الإسلامي الأصيل وبين المعاصرة ؟ هل انتماء الفكر إلى الإسلام وتأصيله على الأسس والمبادئ الإسلامية يتعارض مع معاصرته؟ 


أعتقد إن الإجابة ستكون نعم إذا ذهبنا في وصف الفكر الإسلامي مذهب من يقرر إن هذا الفقه في أحكامه عامة قواعد أزلية ثابتة لا يصح التجديد في إرجائها ولا يمكن مسها باجتهاد ، إنما تؤخذ بالتقليد قواعد مطلقة لا يعتريها الاستثناء والتقييد ، وهي قوالب ثابتة تطبق كما هي في مختلف الظروف والأحوال.


 واعتقد أيضا إن الإجابة ستكون نعم إذا ذهبنا في فهم المعاصرة بأن معطيات العصر قدر لا محيص من الإقرار بها والسير وفق دلالاتها ، والنظر إلى الإسلام وفقهه وكأنه ميتة تلغي المعاصرة كل قيمه التي تتعارض مع زحفها الآتي من وراء الحدود ، أو من مضمون النظام الصناعي وظلم النظم التي تحكم آلية إدارة هذا الكوكب ، ومن تداعيات السياق الاقتصادي وآثاره على البنى الاجتماعية المستحدثة. 


ولإيضاح الفكرة أضرب لكم مثلاً : ذهب بعض إلى الدعوة إلى إلغاء (دية العاقلة) من أحكام القضاء الإسلامي  , لأن المدنية المعاصرة فرضت انهيار النظام الأسري وقطعت الأرحام ومن ثم لا مسوغ ليتحمل الأقربون مسؤولية خطأ من لا يرتبطون معه برباط َ! ولا بد مجاراةً للعصر من إلغاء الدية على العاقلة.


حينما ارتكبت الحداثة كبيرة قطع صلة الأرحام فعلينا ان نخضع لسياقها ونلغي من أحكام الفقه الإسلامي ما يترتب عليها ، وقد أغفل من تبنى إلغاء دية العاقلة إن عليه أن يلغي نظام الإرث ، إذ لا معنى أن يستفيد مالياً من لا يتحمل المسؤولية المالية بحكم صلة الدم ، التي قطعت المدنية المعاصرة أواصرها الاجتماعية. وبذلك يكون الفقه الإسلامي والإسلام – حتى بقيمه التي أخذت فلول الحداثة الاعتراف بضرورتها والإقرار بأن نظام الأسرة ضرورة تجب العودة إليه- سيكون هذا الفقه ميتة لا صوت لها أمام كل مساوئ العصر وكبائره .


إن هذا اللون من التكيّف مع العصر يصطدم مع الأصول الإسلامية دون ريب ، إذ ينظر إلى أحكام هذا الدين نظرة مبتسرة تجزئ وحدتها ، بل تحكم عليها بالموت ثم تأتي لتمارس علاجها. يحق للباحث ان يقرر لغوية (دية العاقلة) انطلاقا من الإيمان بقيم المدنية المعاصرة لكنه لا يحق له أن يقرر إلغاء هذا الحكم من الفقه الإسلامي استنادا إلى مآل المدنية المعاصرة وقيمها ، التي تتعارض بالصميم مع رسالة الأديان عامة بل مع النصوص القرآنية المؤكدة بل إلغاء مثل هذه الأحكام يعني إلغاء خلود رسالة الإسلام بقيمه الأساسية ، وإعلان موت دور الدين إزاء الانحرافات القيمية الكبرى التي تحاول تطورات العصور أن تفرضها على حياة الناس.


في هذا الضوء يتضح إن مفهوم الأصالة والمعاصرة شأنه شأن أغلب المفاهيم نسبي إلى حد واضح ، ومن ثمّ لابد في كل مسألة من تحديد نختلف أو نتفق حوله ، لا أن يكون تحديد المصطلح ذاته جدلياً ، عندئذ تتسع الهوة ، ولعلنا لا نصل حتى إلى فهم الاختلاف


هنا لا أبتغي أن أتخذ موقفاً ينتمي إلى دائرة أحكام القيمة من الفقه الإسلامي فأقرر إن هذا الفقه ببنية قواعده ومرونته الفائقة يستطيع أن يواكب العصور وأن يستجيب لمتطلبات الزمان مع الحفاظ على قيمه ومقاصده الأساسية وهوية رسالته لا أريد أن أتخذ هذا الموقف عبر الدخول في جدل الحداثة وإشكاليات ما بعدها. إنما أبتغي أن أبدأ بالوصف والتفسير من تأريخ هذا الفقه ومسيرته التي استمرت أربعة عشر قرناً : 


واجه الفقه الإسلامي – شأنه شأن كل الشرائع والأفكار – التحديات التي تفرضها العصور على طول تأريخه ، سواء على مستوى المنهج أم على مستوى المفردات. فبدءأ من عصر التدوين أخذ التنوع سبيله إلى هذا الفقه ، فكانت مدرسة الرأي ومدرسة الحديث وكانت اتجاهات التوفيق. لقد واجه الفقه الإسلامي أزمة الصراع بين العقل والنص وكانت في الجوهر أزمة الصراع بين العقول ، إذ النص ينطق ويستنطق ، دون أن يتحيز ، إنما تجره العقول إلى حلبة الصراع دون استئذان ، العقول المتنوعة الآفاق و المشارب. 


لقد تكرست مفاهيم منهجية وأحكام لا يعتريها الشك لدى أجيال من الفقهاء ، ثم ما برح التجديد أن يتناول هذه المفاهيم بالجرح والتعديل والتغيير. بل الفقيه الواحد الذي يستقي من الأصول تتعرض آراؤه المنهجية وفتاواه إلى التغيير جراء نضج أدواته واختلاف زاوية نظره ونمو جدل البحث العلمي في جيله.


تأريخياً : لا يساورني الشك في إن الفقه الإسلامي على طول عمره المديد أظهر مرونة فائقة في النمو والتطور واستيعاب المتغيرات التي تفرضها العصور ، وهو محافظ على هويته ومتمسكُ بأصوله ومقاصده. ولعل سر مرونة هذا الفقه وقدرته على التكيف مع العصور تكمن في أن أصوله وقواعده نأت بنفسها عن الإطلاقية والتخشب وقبلت الاستثناء والتقييد قبولا بنيوياً ، إذ لم تأت كليات الفقه الإسلامي أحكاما طلقة منفردة ، بل أنضم إليها من القواعد ما يخصص هذه الأحكام حينما تتبدل الأحوال وتتغير الأزمان وتتعرض الحياة للعسر والحرج ويقع الضرر وتتزاحم الأولويات. ولكن أليس في فقهنا من التخشب أحيانا ما يسجل ضده ومن العكوف في كهوف الماضي ما يثير دهشة المحدثين ؟ نعم ؛ لكن ليس تخشب الأصول ولا تحجر قواعد الفقه ، وإلا لما استوعب هذا الفقه كل التجديد الذي طرأ عليه عبر الأجيال ، إنما هو تخشب العقول وانسداد الآفاق ، عقول بني البشر التي تميل بالتكوين إلى استصحاب القديم والتمسك بالمألوف ليس في الفقه وحده وإنما في كل ميادين الحياة. 


إنها العقول والإفهام قد يتاح لها أن تستنير وتنفتح وفق موازين الحكمة والمنهج ، وقد يقدر لها أن تعكف متمسكة بالماضي دون رؤية نور الحاضر والمستقبل ، أو أن تنفتح بقراءات لا تقل سوءً وخطلاً عن الانغلاق والتخشب والانسداد.


وإذا أردنا أن نقارب إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي عبر جدل الحداثة وإشكالاتها : نجد أن هناك تحديات جادة أمام أصالة الفقه الإسلامي ومعاصرته تمس هويته ، ولا تقف عند الجدل حول حدوده ، بل تطال كينونته ووجوده . وقبل الإطلال من هذه الزاوية عليّ أن أؤكد أن الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي مقولتان متكاملتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى ، فالتأسيس على الأصول يتطلب معرفة الزمان والمكان واستبصار الأحوال والأطوار ، والمعاصرة في الفقه الإسلامي لا تكون معاصرة مالم تحفظ لهذا الفقه هويته وترعى أصــوله وبناه التأسيسية ، ودون ذلك قد تكون معاصرة لكنها لا تكون في الفقه الإسلامي. 


أمام الفقه الإسلامي تحديات معاصرة تفرضها التطورات المتلاحقة في عصرنا الراهن على مستوى علوم الحياة والاتصالات ، وعلى مستوى الحياة الإنسانية عامة في المعاملات والعبادات وفي الأحكام والإيقاعات ، وقد تحمل فقه الأحكام مسؤولية الإجابة على بعض هذه الأسئلة ، وقدم ثلة من الفقهاء إجاباتهم على هذا اللون من الأسئلة ، لكن هنالك لوناً آخر من التحديات المعاصرة أكثر جدية وأخطر شأناً تنال قواعد الفقه وأصول استنباطه وتلقي بظلالها على أحكام الفقه. 


نعم التحديات الأكثر جدية أمام الفقه الإسلامي المعاصر تلقي بظلالها على فقه الأحكام ، لكنها تنصب من حيث الأساس على قواعد الفقه ، وأصول استنباطه ، ومن ثمّ لا يصح منهجياً البحث في الظلال ومناقشة الإشكالية في فقه الأحكام،بل لا بد من الوقوف عند جذور هذه التحديات ، التي تتركز على فهم النص وفلسفة الدلالة ، وتضرب أعماقها في المعرفة ونظريتها ، وفي رؤية الوجود ودلالاته . 


ليس مجدياً أن نقف طويلاً عند مناقشة إشكالية "الحجاب" وما يطرح في هذا الصدد من تحريم أو إباحة ، أو نقف عند البحث في حرمة وجواز المعاملات البنكية والفوائد المصرفية ، وليس مجدياً أيضاً  أن نقف عند الإشكاليات حول الردة وأحكام الارتداد في الفقه الإسلامي ، مالم نعد إلى المنظار الكلي والأسس الوجودية والمعرفية ، التي تنطلق منها فتاوى التحدي قبلناها أم رفضناها ، لأن الاجتهاد الحق هو الاجتهاد الذي ينبثق من رؤية منهجية تنقح الأصول والرؤى الكلية لتقف عند الحجج على فتاوى الأحكام التفصيلية ، بل سيصل النقاش في الجزيئات غالباً إلى الطريق المسدود ، وقد تنبه السلف من علمائنا إلى ذلك ، ووسموا مثل هذا النقاش بالاختلاف المبنائي ، أي لا جدوى من الدخول إليه ، إلا عبر بوابة المبنى والأساس والمنظار الكلي للمسألة. 


كان علم الكلام والحكمة حاضناً للنقاش حول الكبريات والقواعد وكانت إشكاليات العصور تنعكس على بساط البحث في الحكمة وعلم الكلام ، لتشبع بحثاً ، ويدار الجدل حولها ، وكانت تمس الوجود والمعرفة وفلسفة الأخلاق والحقوق . وكان هناك إنتاج داخلي يمحّص ويخرج بنتائج تنعكس على أبحاث الفقه عبر أصوله. فعلم الدلالة وكبريات مباحث الألفاظ التي هي من أمهات أصول الاستنباط الفقهي تأثرت بشكل ملحوظ بالبحث الكلامي والفلسفي حتى نهايته. 


والجدل حول العقل وحجيته على المستويين النظري والعملي اختمر في أبحاث الكلام والفلسفة وانعكس على أصول الفقه ، بل الفقه ذاته.


اما اليوم فالأمر مختلف إلى حد بعيد ، إذ يدار الجدل الكلامي والفلسفي في دائرة بعيدة عن حوزة المعرفة الإسلامية ، وظل البحث الكلامي والفلسفي مسكوناً بإشكاليات الماضي وإعادة إنتاجها ، دون أن يكون التجديد والاجتهاد سمة أساسية في دائرة هذا البحث. هذه هي الحالة العامة للمعرفة الإسلامية وللفقه الإسلامي. 


لقد كان فتح باب الاجتهاد في دائرة الفقه ألإمامي وساماً حمله هذا الفقه،ولا يزال يحمله ، وبقي نقد العقل وتناول الأسس والأصول بالتدقيق والتنقيح سمة للأمامية وعنواناً لمدرسة النجف الأشرف حتى جيل الجهابذة من أساتذتنا العظام. ولكن عليّ أن أقرر دون تحيز إن حوزة الفقه الشيعي الأصيل يهددها خطر سد باب الاجتهاد  ، أما منافذ هذا الخطر فعلينا وضع اليد عليها لكي ندرأ المفسدة ونفتح منافذ المصلحة ومن هنا أطرح الملاحظات التالية : 


أولاً : الاجتهاد الحق هو ما كانت نتائجه جراء بحث اجتهادي في المقدمات ، إذ النتيجة تتبع أحسن المقدمات كما قرر أصحاب صناعة المنطق ، ومن ثم فلا بد أن يستند الاستنباط الفقهي إلى مقدمات تحصّلت بالاجتهاد ، ودون ريب أن جل المباني والأصول التي تشكل المقدمات للاستنباط الفقهي تمثل قواعد عقلية أو نصية ، تعتمد العقل أو الدلالة ، وعلم الدلالة قديماً وحديثاً يستند في جذوره ومنطلقاته إلى العقل والبحث الفلسفي والكلامي. 


ثانياً : في ضوء ما تقدم يكون الاجتهاد الحق ما كان قائماً على أساس نقد اجتهادي للعقل ، ونقاش الإشكاليات المعاصرة التي يطرحها النقد العقلي المتواصل في هذا العالم المتصل مع بعضه ، عبر وسائل الاتصالات ، التي لا تستأذن أحداً . إن الإلحاح على نقد العقل ومحاولة كشف حدود معارفه وقيمتها ومصادر إلهامها أمر حياتي لنا ، وهو أحد أسرار نهضة الغرب الحديثة ومفتاح تطور المعرفة ونموها.


ثالثاً : لا يتوهم أحد إن نقد العقل والدعوة إلى إثارة الأسئلة الكلامية التي يطرحها العقل المعاصر تعني بالضرورة الانحياز إلى مدرسة العقل ومجانبة مدرسة الحديث ، أو تبني الاتجاه الأصولي ورفض الاتجاه الإخباري . إذ الرأي الذي أتبناه هو إن الاتجاه الإخباري لم يتأسس إلا على موقف نقدي للعقل ولم يمارس الأمين الاسترابادي في فوائده إلا نقداً فلسفياً للعقل ، ومن ثمّ تبنى الاتجاه الإخباري على أساس موقف نقدي من صميم البحث العقلي والفلسفي. 


رابعاً : لا يتوهم أحد أن تأكيد مقالنا على العقل يعني العودة إلى عصر الأنوار وسلطان العقل وتجاوز مدياته ، بل هي دعوة بإصرار إلى نقده وتحديد مدياته . ولا يتوهم أحد إن إشارتنا المتكررة للفلسفة وعلم الكلام تعني التقليل من أهمية ودور سائر حقول المعرفة التي تلابس المعرفة الدينية ، كالتأريخ والمعرفة النفسية والاجتماعية ، بل هي معارف يجب استبصارها والتسلح بأدواتها ، ولكنها على كل حال معارف تأثرت رؤاها بالموقف الفلسفي والعقلي ، ومن ثم أكتفينا بالتأكيد على مفتاح الإفادة السليمة منها ، اعني رؤية هذه المعارف في إطارها السليم ونقد أسسها العقلية  ، للإفادة منها على أساس بصيرة واجتهاد . أما علوم لغة العرب وفهم النص فهي الاجتهاد الفقهي بعينه ، ومن ثمّ لم تستدعي تأكيداً أو تنويهاً. 


وبكلمة أعني من العقل الأداة ، التي تسوغ لنا التمسك بالنص، وتحدد لنا الحجج والأدلة ، والمضمون الذي يبرر لنا المعرفة ويحدد ركائزها.


خامساً : إن سيادة نزعة التبسيط وفتح الباب أمام الأدعياء قد يفضي إلى تعالي الصيحات للتمسك بفتاوى المتأخرين من السلف وإيقاف مسيرة الاجتهاد ، وهو أمر قد يمكن تبريره ، أو انتشار النزعة الحشوية وفقدان فقهنا عمقه ومهابته التي توفر عليها عبر جهود المحققين على طول قرون من الكد والجهد المضني .


وإذا عدنا إلى صلب إشكالية درسنا الراهن ( الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي) أكرر هنا إن المعاصرة في هذا الفقه دون أن تؤصل يمكن وسمها بالمعاصرة ، لكنها في إطار أخر ، لنا أن نسميه ما أردنا إلا الفقه الإسلامي ، لأن هوية هذا الفقه رهن أصالته ، وإن أصالة الفقه الإسلامي لا تفارق معاصرته ، لأن هذا الفقه كمنتج لا بد أن يستند إلى الاجتهاد ، والاجتهاد الحق يعني الاحتكاك مع إشكاليات العصر ، والإجابة على أسئلة وقائعه الحادثة ، بل لا أغالي بالقول : إن معاصرة الفقه تعادل فتح باب الاجتهاد ، بل هي المســـوغ المنطقي لفتح هذا الباب ، واستمرار عملية إنتاج هذا الفقه ، إذ لو أغفلنا المعاصرة وأوقفنا حركة الزمان بأطواره ومتغيراته ارتفعت الحاجة عندئذ إلى الاجتهاد و التجديد. 


         وأخيرا ؛ أود التأكيد على ملاحظة منهجية مرت الإشارة إليها وهي: 


إننا كنا ننطلق من رؤيتنا الوجودية والدينية حينما قررنا إن الأصالة والمعاصرة مقولتان متكاملتان في إطار الفقه الإسلامي ، وأيضا حينما قررنا إن الإشكالية بين الأصالة والمعاصرة إشكالية الإفهام والعقول وليست أزمة الفقه الإسلامي. ومن ثمّ يكون طبيعياً أن يتبنى آخرون إنها إشكالية الفقه الإسلامي ذاته ، وأزمة المعرفة الدينية الإسلامية بأسرها ، وإن الأصالة والمعاصرة في هذا الفقه إشكالية داخلية ، تبعاً لرؤيتهم الوجودية والمعرفية المختلفة مع إتجاه مقالنا . ومن هنا ينبغي التمييز في نقاش هذه الإشكالية بين من ينظر إلى الفقه الإسلامي من داخله وفي إطار رؤية منسجمة مع الأصول والمبادئ الإسلامية ، وبين من يرد الميدان من خارج إطار هذه الرؤية ، محملاً بالأسئلة الحرجة ، ناظراً إلى هذا الفقه نظرة المرتاب في أصوله ومبادئه . 


اجل لا بد من التمييز بين من يقرأ إشكالية الأصالة والمعاصرة على أساس مباني التأويلية وهرمونوتيك النص والارتماء في أحضان النسبية المطلقة دون مرجعية للخطاب أو المعرفة ، وبين من يؤمن بالتأويل المؤسس على مبدأ (الثبات النسبي) ويتمسك بالقضية على أساس فهم متواضع وقابلٍ للنقد ، وتكون الحقائق مرجعية تقويم الفهم وترشيد المعرفة. 


الفقه الإسلامي يواجه أسئلة تفرضها استحقاقات العصر الراهن وتطورات المعرفة الإنسانية الحديثة ، بعض هذه الأسئلة يمكن الإجابة عليها بالأفراد ، وعبر أدوات البحث المتداولة وفي أطار الأصول العامة للاستنباط الفقهي الموروث ؛ لكن المهم والخطير من هذه الأسئلة لا يصح التعامل معه بالإفراد ، بل لا بد أن يأتي درسها ومعالجتها في إطار رؤية اشمل ، تُحرر في أصول الاستنباط الفقهي ، بل تلتمس في أصول الأصول ، في رؤية الوجود والمعرفة والتأريخ ، الاجتهاد في هذه الرؤية ضامن لبقاء باب الاجتهاد الفقهي مفتوحاً. 


وختاماً: أعرّج على همٍ من هموم عالم المسلمين ، لكنه - ولسوء الحظ - أمسى ليلاً مؤرقاً لحاضر العراق ، يهدد مستقبل أجياله ، إنه (الطائفية) ، هذه النزعة غير المشروعة أساساً ، وهي أكثر تضليلاً حينما تكون أساساً في رؤية الفقه الإسلامي ، إذ الروح الطائفي يحرم الأصالة غناها ، ويوصد أبواباً أمام الاجتهاد الفقهي ، تعرقل مسيرته ، وترهن نموه أسير ترهات الانحياز المقيت. 


إن تنوع الاجتهاد الفقهي في فقهنا الإسلامي مصدر غنى ، وعنوان حرية الرأي ، وجلال الإبداع. فمذاهب الفقه ومدارسه ولدت في أحضان بعضها ، وجاءت أراؤها في كثير من الأحيان في إطار جدل خصب ، ولد في عصور الازدهار ومن ثمّ فاستبعاد أي اجتهاد مذهبي يعادل غياب أفق من آفاق الرؤية ، ومن هنا لابد من الإصرار على  إحياء دراسات الفقه المقارن وأصوله العامة.   


 


اللهم أنر أفئدتنا بمعرفتك وحبك وألهمنا التواضع سبيلاً لاكتشاف حقائقك والخضوع لربوبيتك، وأزل عن قلوبنا الحقد والحسد.